القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: في غياب صديق (الى صديقي د. عبد العزيز فرمان)

 
الجمعة 03 اب 2018


فرهاد جميل حاجو

أخي و صديق العمر د.عبدالعزيز، عندما وصلني نبأ وفاتك المفاجئ كنت راقداً في المستشفى أصارع من أجل الحياة. حاولت مراراَ أن أجمع الحروف و الكلمات كي أنثرها كعبق ورد فوق ثراك لكن الوهن خانني و ها أنا ذا الآن استجمع قواي كي أكتب لك و أعبر عن حزني الدفين بعد كل هذه المدة التي مضت على لقائنا الأخير. تأكد أنني عندما أكتب هذه الكلمات أشعر بغصة تعصر قلبي لا لوفاتك لأن الموت مفروض على كل الكائنات و هو  شيء محتم في هذا الكون و لأننا نحن الأثنين كنا قد شارفنا ذلك الأفق الذي يفصل الحياة عن الموت، الغصة التي عصرت قلبي هي أنني لم أستطع الإيفاء بوعدي لك بأننا سنلتقي قريباً لأن رحيلك المفاجئ و كذلك مرضي المفاجئ حالا دون ذلك و أرادا بذلك زيادة الألم و الوجع إلى غصاتنا و أوجاعنا و آلامنا.


في كتابة رثائي هذا لا أجد الكلمات و أبقى وحدي مع الصمت و الذكريات و ربما الشيء الوحيد  الذي يتلائم مع المناسبة هو أن أتخيلك معي و أستعيد لوحدي تلك الذكريات التي كنا نسردها معاً في مجالسنا و نكررها حتى درجة الملل.  
الحنين للوطن و الأرض و الأهل و خاصة الأصدقاء لم يفارق عتبات عمري, كل يوم من هذا العمر قضيتها في الغربة على أمل أن نجتمع معاً في حضن أرضنا التي طالما ناضلنا من أجله. كنا مجموعة رائعة من الأصدقاء في ذلك الصقيع القاتل و الشيء الذي كان يبعث الدفئ و الحرارة في أجسادنا كانت إجتماعاتنا و حواراتنا و أحلامنا التي لم تكن تنتهي عند حد. تلك الأحلام التي ساندتنا في مواجهة العراك مع الغربة. الشعر و الرسم و الموسيقى و السياسة و الروح الثورية التي كانت تحملنا على أجنحتها نحو الوطن و نحن قابعين بين براثن بلاد الصقيع. ما زالت ترن في أذني نقاشاتنا و هتافاتنا تحت قبة جمعية الطلبة الكورد في اوروبا, التي كانت تشكل منبرنا الوحيد لايصال صوتنا الى العالم و نحن طلبة على مقاعد الجامعات. تحت قبة هذه الجمعية كان لقائنا الأول عام 1966في مؤتمر برلين لإتحاد الطلبة الأكراد و كان ذلك المؤتمر قد عقد مباشرة بعد إنشقاق المكتب السياسي بقيادة جلال الطالباني و إبراهيم أحمد عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وكان هذا اللقاء فاتحة لسلسلة من اللقاءات  في مؤتمرات عديدة للإتحاد في عواصم مختلفة في أوربا. اما اعز ذكرى لي معك والتي تجعلني ابتسم كلما استرجعتها هو زيارتك لي في إحدى المرات بمدينة برلين وانت تحمل كراساً أصفر اللون مدون فيه قصائدك و أشعارك المفعمة بالمشاعر و الأحاسيس التي كانت تعبر عن كورديتك الراسخة و طلبت مني أن أنسخها على الآلة الكاتبة حيث ما زلت أحتفظ بالنسخة الثانية لدي و هي بإسم ( سالار-Salar) .
 كنا شريكين متساويين في كم هال من الذكريات و ها أنت ذا غادرت و أبقيت حصتك في رقبتي. في هذه السنين الأخيرة كنا كلما نجتمع في مجلس مع شلة من الأصدقاء نتناول قضايا واقعنا اليومي نغمسه في كأس من العرق لعلنا نخفف شيئاً من مذاقه المر، أو في أكثر من الأحيان و بدون وعي نفتح نحن الأثنين قمقم ذكرياتنا التي عشناها معاً لمدى أكثر من خمسة عقود. و في كثير من الأحيان كنا ننسى شلة الأصدقاء حولنا و نتمادى في سرد الذكريات و لم نكن نستيقظ منها إلا عندما  يصيح بنا من بين الجماعة أحدهم قائلاً: يكفي يا جماعة, منذ ساعة و نحن نستمع إلى قصص ألف ليلة و ليلة التي لا تنتهي.
اتذكر بأننا لدى سرد ذكرياتنا على مسامع  شلة الأصدقاء حولنا كان الوجوم يسيطر على كلانا عندما كنا نتذكر بألم آخر لقاء لنا و كان ذلك في عام 1975 في برلين الغربية مباشرة بعد إنهيار ثورة أيلول وكان ذلك آخر اجتماع  لنا تحت سقف إتحاد الطلبة الأكراد في أوربا. في ذلك المؤتمر كان أنصار الطالباني قد حشدوا جمعاً غفيراً من أنصارهم و بحضور جلال الطالباني نفسه, ليعلنوا بأن البارزاني قد تسبب في تلك الكارثة التي حلت بالشعب الكردي وليطالبوا باصرارعلى إنزال الصورة الكبيرة للزعيم الخالد ملا مصطفى البارزاني و التي كانت تتصدر قاعة المؤتمر. بالرغم من كل المحاولات المستميتة من قبل تلك الشخصيات الذين حضروا المؤتمر من أمثال كاميران بدرخان و نورالدين ظاظا و مجيد حاجو إلا إن الطالبانيين نجحوا في الوصول إلى هدفهم و بذلك  أسدل الستار على آخر فصل من تاريخ أكبر جمعية كوردية في أوربا والتي جمعت دموع الخيبة و الاحباط و الألم  في مآقينا. 
 بين البعد و المرض و بين الوطن و الغربة حزن مؤلم, لكن الحزن الأكبر هو الموت الذي يحضر دون إذن و يحصد الأرواح بلا إستئذان لا يسأل إذا كان المفارق للحياة يرغب بلقاء احبائه و الأمكنة التي يرغب زيارته قبل الرحيل الأخير، الغصة التي آلمتني برحيلك أكثر من أي شيء آخر و عصرت قلبي دون رحمة و أنا أقاوم المرض و أحاول التحرر من براثنه هو لقائنا الأخير قبل سنتين حيث جلسنا في بيتك مع شلة من الأصدقاء. كنت وحيداً في البيت لا أحد معك سوى ممرضك الذي كان يقوم على خدمتك، لم تكن على عادتك، كان اليأس و الأسى و الإحباط قد تمكنا منك و حولوك إلى شخص آخر يختلف تماماً عن صديقي عبد العزيز الذي كنت أعرفه. مهما كنت أحاول نفض غبار اليأس و الإحباط عن كتفيك لكنك كنت بعيداً عني بذاكرتك التي لم تعد تتحمل كل ما جرى للوطن و بت مستسلماً للصمت و الوهن. 
لا يوجد مكان أو زمان معين للموت و لا عمر معين إنه يباغتنا دون أن نشعر به و الكثير من الأحيان يرافقنا دون أن نراه كان هذا حالك يا صديق العمر صاحبك الرحيل بصمت دون أن تودعنا و كأنك بذلك أردت أن تقول لنا الموت قادم لا محال عيشوا الحياة قدر المستطاع دون يأس و دون ألم لا تتركوا الوحدة و اليأس و الإحباط يتمكنون منكم و لا تجعلوا الموت يشعركم بتفاهة الدنيا لطالما تعيشون في هذه الدنيا هي بالنسبة لي ليست تافهة لأنكم تسكنونها و هذا يعني أنني الآخر أسكنها لأنكم ما  زلتم فيها.
كنتَ كمن مات على دفعات بصمت مؤلم, الوطن المشرف على الموت و موت الأحلام و الأصدقاء و الأحبة و عندما يحضر الموت الكبير يرى الجسد كتلة هامدة لا حراك فيه فيحمله على أكتافه غير آبه بأي شيء. سأحاول أن أكون نقيض هذا الموت تماماً بعد أن منحت عمراً جديداً, سأحاول إعادة الإنبعاث الى ذلك الزمن الجميل الذي جمعنا معاً. سأقبض على كل دقيقة من العمر لأدون الألم و الأمل معاً حتى لا نبقى  أسرى لليأس و الإحباط و مستسلمين لواقع آت لا محال و  مفروض على الكون اسمه الموت.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات