القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: في مواجهة شبح كوفيد التاسع عشر: كرسي فارغ في مجلس العزاء

 
الأربعاء 09 ايلول 2020


 إبراهيم اليوسف

أتذكر، مقولة لأبي ونحن في عزاء عم لنا: السيد أحمد ملامحمد - من قرية سحيل- رحمهما الله، إذ قال وهو بين المعزين: يخيل إلي بين لحظة وأخرى أن السيد أحمد سيظهر من بين الجموع وأكاد أسمع صوته" كان ذلك- في تصوري- لأن وجوه الأهل والأقرباء في ذلك العزاء كانت تذكر بالراحل للتو. تماماً حدث لي مثل ذلك وأنا في مجلس عزاء أحد عمومتنا- السيد سيراج ملا حسين- وهو ابن عم أبي، الذي توفي بسبب نوبة قلبية، إذ كنت أنظر في وجوه أخوته. أبنائه. أحفاده. الأهل. الأصدقاء الذين لم يكترثوا باعتذارنا المدون والواضح – في نص النعوة- عن إقامة - مجلس عزاء- وكان قرارنا: أن نلتقي كأهل فحسب، وربما  بصحبة بعض المقربين- المعدودين جداً- الذين لايمكن إلا وأن يتم استثناؤهم، لأجدني وأنا أدخل خيمة العزاء التي أقيمت في باحة أحد مباني أحد أنجاله في -هانوفر- أن مجلس العزاء  شبه عام وضخم، بمن هم مستثنون ومن دون العامة، ولهذا دلالاته لمكانة الراحل! 


كنت مسلحاً بالمعقمات التي أحملها في جيوبي وحقيبة يدي. بأصداء التكتيكات والتدابير النظرية التي اتخذتها ومن معي: الشاعر حفيظ عبدالرحمن - ابن العم-  و شقيقي عبدالإله وولدنا فائق، بعد أن قررنا أن يكون موفدنا إلى مجلس العزاء رمزياً، مصغراً، بحسب الاتفاق، إلا أنه ومع التقائي بأسرة عمنا الراحل فقدت السيطرة على " حزمة" من شروط  الوقاية، ضمن خطة استراتيجيتنا الصحية، وأنا أغتسل بحنفية - كحول- وأعقم فمي وأنفي، بعد أن نسيت كل ذلك تحت هيمنة ووطأة ألم فقد شخص عزيز، قريب، صدمني رحيله،  له مكانته في قلب كل من التقاه، وكانت حياته سجلاً من نوع خاص من عمل الخير، في أكثرمن مجال، من دون نسيان أسرته التي عني بها، من خلال لجوئه لعمل شاق، في بدايات حياته، ومن ثم عبر وظيفة بسيطة أمنها له  مقرب قريب  من الأسرة هو:  عبدالمجيد عبدالكريم - أبو ياسر- أحد حاضري الطرفة أو النكتة  وأصحاب الكاريزمات  من الأهل والأصدقاء والمقربين، وهو ما كان يجمع الاثنين، وهنا أذكر طرفة لهذا الأخير، إذ كان يعمل مشرفاً عاماً في مؤسسة-  مزارع الدولة/ المكننة الزراعية- وسقطت به والطيارالطائرة، إلا أنه نجا، كما تعرض لحادث سير، توفي بعض من معه ونجا، فرحنا إليه، وهو في- الجبس- مكسرالعظام، مهنئين إياه على سلامته فقال:
اطمئنوا، تعرضت لحادثتي جو و بر ولم أمت، يبدو أني سأموت غرقاً/ بحراً!
وإذا كنت قد ذكرت العمين:  السيد سراج والسيد عبدالمجيد.  رحمهما الله، فلأنهما كانا مقربين إلى بعضهما بعضاً،. إلى كل أهلنا، وأن كلاً منهما كان صاحب نكتة، مقدراً، ذا كاريزما، وكانا يعملان في مجال خدمات الآخرين!
قد يستغرب بعضهم بالقول: كلنا نفقد أقرباء لنا، فلم تذكر ذويك. مقربيك؟ ربما لاجواب  كافياً شافياً لدي في مواجهة  بعض هؤلاء، وإنما أستطيع أن أبين وجهة نظري وهي أنني كما أحب الأحياء، فإن بعض هؤلاء- ما إن يرحل- فأجدني ملزماً أن أبين مشاعري تجاهه. أبين أثر يده البيضاء علي، ولو كقارىء له، أو كمتأثر بموقف أو عبارة، أو جملة له، ويغدو الأمربالنسبة إلي أكثر لزاماً عندما تكون بيني وهذا الشخص- عشرة- طويلة، وعلاقات متبادلة، فأنا من عداد أكثرالناس الذين يتأثرون بمن حولهم: أنى مرضوا، أو تعرضوا لمحنة ما، ولهذا فأنا كرست ذاتي للدفاع عن المعتقلين، منذ أن  أتيح  لي ذلك، وأستغرب كثيراً سلوك بعضهم تجاه راحلين عاشوا معهم عقوداً، ولهم الفضل عليهم، وكانوا ملتزمين تجاههم، بل أكثر، فيتلقون نبأ رحيل أحد هؤلاء وكأنه خبرسريع في نشرة أخبار عابرة، لاعلاقة لهم بها، بل هناك من يضجر من كتابة أي نص عن أي راحل، ومنهم من اعتبر ذلك معابة، وراح يشمت، ويدبج"مساخره".
في نظري، إذا كان الوفاء تجاه الأحياء ضرورياً، فإن الوفاء تجاه الراحلين الذين لهم بصمات مباشرة أو غير مباشرة في حيواتنا هو الوفاء الأكبر، لاسيما تجاه أناس ما عادوا يقدمون أية منافع  شخصية، وأن تناسي هؤلاء- في نظري- إنما هو مثلبة من قبل أي متناس لهم، وذلك بالذكرالحسن لمناقبهم، بالنسبة للعوام من الأحياء، والكتابة- قدرالمستطاع- لمن يمتلك إمكان الكتابة، وها قد أصبح كلنا: إعلاميين، في زمن السوشيال ميديا!
ما يلفت في سيرة هذا الراحل: السيد سيراج، ودعاني لأتناوله، ليس من خلال- منظور القربى- هوحرصه الكبير على مشاركة أوساط واسعة، قدرالإمكان،  في مجالس عزاء راحليهم، بحيث كان يومه، وعلى امتداد: الأسبوع. الشهر. السنة، على هذا النحو. رقعة تحركه منطقة الجزيرة، وإن كانت مناطق: قامشلي- تربسبي- ديرك- عامودا المدى المحوري في خريطته، ومن مآثره: أنه يقيم طوال مدد مجالس عزاء الأهل، والمقربين. يمتلك قدرة هائلة على إعانة ذوي الراحل بأحاديث تنتشلهم من ألم مصيبتهم، بل تسعدهم، وتزرع أمل الحياة في نفوسهم.  يتواصل مع المرضى، يلبي حاجة من يقرع بابه لحل مشكلة. أتذكر في العام 1982  أنه  وبعد أن  شهد مجلس عزاء  شقيقه- الأصغر- الشهيد سيف الدين الذي استشهد في أعالي جبال" صنين"/لبنان، أثناء الاجتياح الإسرائيلي، و كتبت فيه قصيدة- نشرت في ديواني" للعشق للقبرات والمسافة"- 1986 بعنوان: أناشيد سيفو- وكان أحد أكبر مجالس العزاء التي شهدناها، قال:
ثمة دين كبير-لمجتمعنا ومحيطنا- صار بذمتنا...
خلال ربع القرن الفائت، أو الثلاثين سنة الماضية كانت ثمة لجنة مصالحات اجتماعية أقطابها هو و: الراحل العم سيد محمد نذير وابن العم الشاعر الحاج عبدالكريم فرمان-  وابن العم المربي عدنان سيد حسن ومن المقربين: العم الملا عيسى قرطميني- و العم الحاج حسين قرطميني  وغيرهم ممن ماعدت أتذكرهم، وكانوا يتكبدون الكثيرمن الجهد، والنفقات، لأجل إجراء المصالحات ضمن أو بين الأسر والعائلات المختلفة، ومن بينها الكثيرمن خلافات: الثأر وحوادث السير للتقريب بين القلوب وإزالة الشر.
ربى أبناءه وبناته على القيم السامية. نصرة المظلوم. الروح القومية مع بعدها الإنساني، وأمن لقمة عيشهم، عبرأصعب أشكال العمل الشاق، من دون أن يرفع يديه قبل أن تتأمن له ولشقيقه سيد أحمد وظيفة في دائرة المكننة، فكان حارساً ليلياً محبوباً من قبل زملائه ومديري عمله موضع ثقة، وهو ما قاله له المهندس المرحوم نايف أسعد وغيره، لا فرق بين أحد وآخر، إلا بقدرإنسانيته. يواجه الجاهل. المتزمت، بابتسامته، بروح النكتة، من عداد أكبررصيد وإرث يمتلكهما، وكانا من أدوات فوزه ونجاحه الاجتماعي، والذي أكد على ذلك تأثر الناس برحيله سواء في الوطن، وفي ذروة حرب كورونا، أو خارج الوطن، إذ بقيت خيمة خواص الخواص مفتوحة الأبواب بضعة أيام، يستذكر كلهم مناقبه، وطرائفه، ومواقفه، وقلت لأخوته: عليكم جمع طرائفه وتوثيقها لأن من بينها ما لايخطرعلى بال!
أثناء بعض التحديات التي كانت تواجهنا- كعائلة- فقد وجدته الأكثر فرضاً لروح المسالم، ولو كان في  ذلك بعض التنازل، بالمقاييس العامة، أنى لزم الأمر، صارماً- في الوقت ذاته- في وجه أي متجبر أرعن- يقول كلمته،  بعيداً عن كل ذي سلطة،  كان يهرول إليها بعض الأعيان والوجهاء، ومن المواقف التي شهدته خلالها رابط الجأش، عندما أصيب في انتفاضة  الثاني عشر من آذار2004 حفيداه: مسعود وحيد أبويه و أخواته وجوان" ابن ابنته الكبرى" برصاص الأمن السوري، واستشهد الأخير، بعد صراع دام أسابيع في مواجهة الغياب، بينما حمل مسعود حمزة- ابن ابنه البكر- عطب الرصاصة في قدمه، ناهيك عن استشهاد حفيدته شقيقة جوان قبل سنوات! 
أرسل إلي مقطع فيديو في عيد الفطرالماضي، فيه حديث حميم موجه إلي اسماً، إلا أنني وجدته مكسور الخاطر، على غير طبيعته، وقد نال منه تقدم السن كثيراً، بعد أن ودعناه قبل سنة ونصف، أو يزيد، من" دسلدورف"/ ألمانيا، وهو في وضع لابأس به، ليدع إقامته الألمانية، ويعيش في الوطن الذي حن إليه، وكان يمازحنا قائلاً:
أتى بي أبنائي بعد أن لم أعد أصلح للتفاعل مع الحياة الجديدة هنا!
لم يمر أحد من أسرنا بأية أزمة، أو مرض، أو مشكلة ما، إلا وكان العم سيد سيراج حاضراً، وفي طليعة الأهل، ليس بالنسبة لنا كذويه، وإنما هكذا بالنسبة لأوسع دائرة محيط اجتماعية: عرباً وكرداً ومسيحيين وإيزيديين وسواهم، وقد حدثنا خلال فترة العزاء، أو عبر أشكال التواصل كثيرون عن بعض صفاته، وشهامته، ونبله، لذلك فقد كان حصيد اسمه ضوعاً ورائحة طيبة كما البذور التي زرعها، على امتداد ثمانين سنة!
عادة، كان أبي، الأكثر صرامة، في المجالس، العامة، يتحرك بوقار رجل دين، على نحو عفوي، كما هوشأنه حتى في المنزل، عندما يلتقي العم سيد سيراج يخاطبه هو وابن عم لنا آخر- بصفة محببة- قائلاً:
مسموح لك لأنك" كذا" فقل مالديك!
وكان يضحك ويتقبل- نعته التحببي- بفرح غامر
كي يسترسل في سرد النكات التي جرت معه في حياته، حتى على جبل عرفة، أو في مجالس الشيوخ، ولكن بلغة محببة، نعدها غيرمألوفة، إلا أنه كان يرتجلها، فإذا بها مختارة، ولكم أود لوأتناول بعض طرائفه في مقال خاص!؟
مع وداع العم سيد سيراج خسرنا أحد أواخر أعمدة العائلة. خسرنا واحداً كانت ذاكرته كتاباً من تفاصيل تاريخية، ومعجم أسماء، وأطلس أمكنة، كشاهد على الكثير مما هو خاص أو عام، من دون أن نوثق أياً مما لديه، وهوما جعلني أعلن عن خسارتي كتاباً آخر، في مكتبة عامرة!
ماأحببت التركيز عليه- هنا- هو أنني أتمنى أن نكون أكثر انتباهاً على أنفسنا، خلال المناسبات العامة التي لابد منها، وأن نراعي شروط وتوجيهات الوقاية، لاسيما مع جنون الموجة الكورونية الثانية التي يشهدها العالم، وذلك لأنني أدركت أن الأكثر حرصاً من بيننا قد يفتقد زمام التحكم بالضوابط اللازمة، لأكثرمن سبب عاطفي، إذ قلت لبعض الأقرباء: لو أن عمنا- رحمه الله- بيننا لصرخ في وجوهنا أن انتبهوا على  الآخرين من الأصدقاء والمحبين وعليكم!

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.27
تصويتات: 11


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات