إذ إن وراء كل تمثال يُحطَّم، يشهق تاريخ، وفي كل لقية أثرية تدمَّر، تصعق واقعة تاريخية، وفي كل منحوتة أثرية تُزال، يرتج الجوار، كما لو أن آلافاً من سنّي بلاد ما بين النهرين تعدَم في الذاكرة الجغرافية، والآشورية المَعلَم في الواجهة، إنما معها وضمناً يكون الميتانيون والحوريون والبابليون والأكاديون، وكل ما يدل على حضارة ما بعد الميلاد" الآثار الإسلامية "..الخ، وهي في مجموعها تكوّن شقيقات منتمية إلى نسب تاريخ مديد، أي شكّل أهلوها فسيفساء ماض ممتد في الحاضر، يستحيل التفكر في ميزوبوتاميا دونها، ولعل رؤية الأيدي الآثمة أو وهي تحمل أدواتها المدرَّبة على التهشيم والتحطيم تعرّف بأصول هؤلاء، والعودة بالمنطقة إلى ما يستحيل تحديده تاريخياً في الترويع والترهيب..

ولا أعتقد، أنه في وسع أي كان وصف ما يجري، في واقعة غير مسبوقة: أي كيفية محاولة محو تاريخ عمره آلاف السنين، في عدة ساعات، وبمثل هذا الحقد الممنهج، ومن كان يراقب، ومن كان يسجّل.

هنا، وإزاء هذه المتابعة، أدركت اللحظة تماماً، ما معنى مفهوم " القطيع "، حيث تتعدد أسماؤه ودلالاته: أدركت أن ثمة قطيعاً يُربَّى لصالح نظام معين، ليثبت أنه صاحب قطيع، وأنه، بصفته الراعي، جلاده: ذباحه كذلك، والمضحّي به متى شاء، وأدركت للتو، أن ثمة قطيعاً، جرّد حتى من خاصية الحيونة، كرمى بقاء طاغوته، وهو ينتشي على رائحة دماء رعيته عند اللزوم، إنما ما أدركته للتو أكثر، هو وجود القطيع الهمجي الخاص والفائق إرهاباً ودموية، مربَّى من جهة من يستثمر منه، وفيه هذا الإرهاب، في شركة متعدية الحدود الدولية، ومن أكثر من جهة، كما هو مشهد هذا القطيع النازل ذبحاً بالناس" وهم معينون "، وضرباً وطعناً، وتنكيلاً، وترجمة لغرائز مستجدة، ونهبهاً لكل ما يملكون: الحياة ضمناً !

نعم، إن القضاء على شعب ما، جريمة، ويبقى القضاء على كل أثر له، جريمة مضاعفة، وللآشوريين أن يجهروا بشكواهم، أن يرفعوا أيديهم إلى سماء صمّاء، بما أنها باتت محتكرَة داعشياً، أن يتناثروا على طرقات التاريخ ومعابر الحدود المفخخة، ويثبتوا أمام الكاميرات الإعلامية، للحضول على صور ذات علاقة والعيون تشهق، والقلوب تشهق، والمسامات تصعق، وأن يثيروا " شفقات " ذوي الشأن العالمي، و" المنظمات الإنسانية " في " الدول العظمى" إزاء الجرائم " العظمى ؟" كما هو واقع أخوتهم: عرباً وكرداً..

على الأخوة الآشوريين- كما يبدو- أن يتجرعوا عذابات ما بعد العولمة، ويعيدوا " التجربة " الكارثية مرغمين، كما كان جلادوهم أول أمس: العثمانيين الأتراك في ترحيلهم وتهجيرهم، وكما كان جلادوهم في الأمس القريب من الانكليز وهم يدفعون بهم صوب الخابور، والخانور نهر لا هم له، كما يظهر، إلا أن يمارس ندباً وهو يتلوى/ يتلوع، أن يشاركوا أخوتهم" ممن سميتهم آنفاً " في عذابات التهجير والترحيل والخطف والنهب والقتل بطرق شتى، وأن يعدّوا ذاكرات أخرى للتوثيق، ودرب الآلام دون نهاية معلومة..

نعم، ما هو باعث على الرعب، هو هذا العنف " الهمجي " المقدَّر في مواقف أنظمة دول المنطقة اللامنظمة، والمعنية بدولها" في العراق نموذجاً " إزاء هذا التدمير والتخريب لتاريخ آلافيٍّ في سنينه، كما لو أنها غير معنية بما يجري، كما لو أنها مجردة من كل " غيرة " وطنية، كما لو أنها معنية بأن تبقى، وهي دون شعب، دون نبتة خضراء، دون نبع يتدق، دون عصفور دوري يزقزق، دون تربة مهيأة للاخضرار..

ربما- في اللحظة التذكيرية هذه- ليحمد أهل الآثار هذه وسواها " وكلها مهددة، حيث الحبل الطويل على الجرّار " ربهم الخاص، لأن ثمة آثاراً مختلفة " هرّبت " إلى الخارج، أو أخِذت منذ زمان طويل " في أوربا وغيرها "، وهذه كانت تتهَم بالنهب والسرقة، ولا أدري ما إذا  كان الذين سعوا إلى عملية " النهب والسرقة "  بطرق مختلفة، مدركين أن ما أفلحوا في اكتشافه وأودعوه متاحف " وطنية- محلية " سوف يتعرض لعملية إبادة جماعية كما هي البشر ؟ وأن ما تم نقله إلى بلادهم لهو بقصد الاستمرار والتأكيد على أنه كان هناك شعوب معمرة، ولها آثارها " ولقد رأيت نماذج حية منها، ذات يوم ربيعي في المتحف الشرقي ببرلين، سنة 2006 ".

الأخوة الآشوريون، الآشوريون الأخوة، الأخوة الذين لا مجال لتنفس الحياة والتاريخ دونهم في منطقة شكلت رحماً أمومياً مدهشاً يجمع بين الجميع في واقع الحال، لا مجال لإعلان الحِداد، لأن الضحايا في ازدياد، حيث الموت المرعب في أوج نشاطه، لا مجال لإحصاء الضحايا، لا مجال لتعيين القتلة، فهم كثر، كثر، سوى أن مجالاً واحداً يمكنكم التفكير فيه، وتدبر أمره، وهو أنكم لستم وحدكم في ساحة وغى القتلة وتجارهم وسماسرتهم ودعاتهم، فلقد رأيتم بأم أعينكم، وسمعتم بأم آذانكم ماذا يجري منذ حين شديد من دهرنا الذي تستنكره الضواري والسباع، أن كل من ينتمي إلى الشرق: مشروع ضحايا، بالتناوب، أو بالدور، في ظل أنظمة لا يعنيها صراخ الضحايا، ولا عويل رسل الممالك المستباحة، ولا بكاء اليتامى من الأطفال، ولاصرخات الثكالى من النساء، ولا " بلاغة " ابراهيم محمود: أخوكم المطعون في وجدانه وجسمه وكل كلمة مما يكتب، ونفَس يتنفس..ودمتم ودمنا بقدْر أقل من الآلام ونزف الدماء والضحايا والقبور المفتوحة ..