القسم العربي |  القسم الثقافي   القسم الكوردي أرسل مقال

تقارير خاصة | ملفات خاصة |مقالات | حوارات | اخبار | بيانات | صحافة حزبية | نعي ومواساة | الارشيف

 

بحث



عدد زوار القسم العربي

يوجد حاليا / 263 / زائر يتصفحون الموقع

القسم الثقافي



























 

 
 

مقالات: الظاهرة التخوينيّة والتجحيشيّة عند الكرد

 
الخميس 12 كانون الثاني 2017


زاغروس آمدي

أن تنتقدَ الآخر، فهذا من حقك بل من واجبك، أن تتَّهم الآخر بالقصور والتهاون والتّخاذل والجبن، فلنقل أن هذا وجهة نظر ، أما أن تخوّن الآخر أو تُجحِّشه أو تُعمِّله فهذا مُنتهى التعصُّب والجّحشَنَة.

عدونا الأكبر هو في ذواتنا نحن ؟
  
من أكثر القضايا الخطيرة والمتجاهلة والغير مرغوب بتناولها في الحركة الكردية والتي لم تحظَ بالعناية اللازمة هي ظاهرة التقسيم الإعتباطي المجحف بحق أفراد وشرائح الشعب الكردي وقبائله وفئاته المختلفة، بإطلاق الأحكام التخوينية والتجحيشية والعَمالَتيّة على المختلفين فكرياً أوسياسياً بالرؤى والمواقف المختلفة، من قبل الأحزاب السياسية والحركات الكردية المسلحة ومثقفيها.


في عصر البداءة والبربرة والتوحُّش الإنساني، كان كل من يقدر على القتال وبأية أداة كانت أو حتى بدون أداة يلجأ إلى القتال، رجلاً كان أو إمرأة، للدفاع عن مصيره ووجوده للبقاء حياً. وكان ثمة حالات نادرة، كأن يتخاذل أحدهم عن القتال أو يهرب من المعركة، فكان يُؤتى به إلى رئيس القبيلة ويحاكم، وكان حكم الإعدام هو الشائع آنذاك في هذه الحالة. حتى أنّ من نساء البرابرة من كانت ترفض استقبال زوجها الفار من ساحة القتال، ومن هنّ من كانت تقوم بطرده، وفي بعض الحالات بقتله لإبعاد العار الذي يلحقه الفار بالعائلة. لأن القتال في تلك الأزمان كان ضرورة حتمية للبقاء.
أما في العصور الحديثة فقد تغيرت الأمور كثيراً. ومالَ الناس عموماً إلى حياة السلم والأمن، وأصبحوا ينفرون من القتال بفعل تأصّل النزعة السلمية لديهم، وحصولهم على مسكن وغذاء وشراب والعيش بأمان. وبالتالي نشأت ظاهرة الهجرة واللجوء في حالات الحروب. حيث ترفض الغالبية من الناس الإشتراك في القتال، طالما ثمة مكان آمن يستطيعون اللجوء إليه. 
في عصر البربرة والتوحش لم توجد هذه الظاهرة، فإما كانوا جميعاً يقاتلون، فينتصرون أو يفنَوْن معاً أو يُأسرون كعبيد أو يهاجرون معاً إلى أماكن بعيدة لتجنب القتال.
والحالة الكردية ليست إستثناءً عندما ترفض الغالبية الإشتراك في الكفاح المسلح أو دعمه. وتفضل الهجرة واللجوء طوعاً أو قسرا على الاشتراك في القتال. ولا أعني هنا الحالة الراهنة تحديداً، وإنما الحالة العامة.
   
إن إطلاق مفاهيم التخوين والعمالة المتبادل فيما بين هذه الحركات والأحزاب وكأنه أصبح نهجاً سياسياً منظماً لدي بعضها، لكني هنا لا أتطرق إلى هذه المسألة رغم ما فيها من إساءة وضرر متبادل وما تسببه هذه الظاهرة من انعكاسات سلبية على مجمل النضال الكردي السياسي والتحرري. لكني اقتصر هنا على تناول هذه الظاهرة السلبية فقط من قبل هذه الجهات تجاه الشعب ومكوناته المختلفة. 

ما الذي يجعل هذه الأحزاب والحركات يصرون على هذا النهج السياسي الخاطئ والمدمر لنفسية الإنسان الكردي ويقومون بتغذية الظاهرة التخوينية والتجحيشية البذيئة؟
هل لأن رؤية المختلفين معهم للأمور مختلفة؟
أو هل لأن وعيهم السياسي ومقارباتهم للواقع الكردي ومحيطه كانت متدنية؟
أم أن الحماس القومي العاطفي والأدلجة والأحكام المسبقة، كانت سببا في نشوء هذه الظاهرة السلبية؟
أم أنه نقص في الوعي الجمعي الكردي عموماً؟

أولاً: أعتبر أن ظاهرة الاختلاف أمر طبيعي ليس فقط بين الكرد، وإنما بين البشر جميعاً. بل حتى في الطبيعة نفسها، فلم يعثر أي إنسان منذ بدء الكون - إذا كان للكون بداية - على شجرتين متطابقتين أو جبلين متماثلين أو نهرين متساويين أو... ولعل من سخاء الطبيعة أو من كرم الله أن جعل لكل إنسان شكلاً مميزا عن الآخر وعقلا مختلفا عن الآخر وتذوقا للجمال والفن والموسيقى والطعام حتى مختلفا ومتفاوتا عن الآخر وإلى آخر هذه السلسلة من الاختلافات. وهذا الاختلاف في حقيقته يمنح الإنسان شعورا بالغبطة لتفرده وعدم مطابقته للآخر.
وليس من قبيل الترف والتفاهة أن يدفع أحدهم مبالغ باهظة من المال ليتفرد بسيارة وحيدة من نوعها من حيث الشكل على الأقل، أو تسافر إحداهن آلاف الأميال لتفصل فستاناً ليس له مثيل في العالم وتدفع مبلغا خياليا من أجل ذلك. وليس من قبيل المنافسة العبثية أو المشاكسة أن يقضي عالم أو روائي سنين طويلة ليخلق ابداعا منفردا خاص به. إنها النفس الإنسانية التواقة إلى التميُّز والتفوق والتفرد. إنها سمة إنسانية باعثة على الخلق والعطاء.    
فهل من الذكاء السياسي جعل هذا الاختلاف مشكلة وعائق يزيد من تعقيد الأمور؟ بالتأكيد لا. لأن السياسة هي عمل توفيقي في إحدى جوانبها الرئيسية. 

ثانياً: إذا فرضنا أن الوعي السياسي والقومي والوطني عند المختلفين هو متدني وقاصر، فهل يمكن أن تتم  معالجة هذا التدني والقصور بإطلاق صفات التجحيش والتخوين والعمالة وإلصاقها بالآخر لمجرد الاختلاف معه في الرؤية السياسية؟
إن الرؤية الضيقة للأمور عند هذه الجهات الكردية التي تعمل على تغذية الثقافة التخوينية والتجحيشية تدل أول ما تدل على سمة  التطرف السياسي أو الغلو القومي أو ما يسمى بـ الشوفينية، أو التصلب والتعصب الأيديولوجي،  أي تناول المسائل الخلافية بمنطق الدوغمائية العقيم الذي يلجأ إلى الإلغاء أو إلى الإقصاء و التهميش حسب الظروف والممكنات المتاحة لديهم. وهذا ما يؤدي بالتأكيد إلى تفاقم وتأزم المشكلة أكثر وليس إلى معالجتها أو تحجيمها. وتحتد نبرة هذه الاتهامات البذيئة عادة عندما يفتقد الطرف الذي يطلق هذه الصفات إلى القوة اللازمة لفرض سيطرته على المختلف وإخضاعه إلى خطه السياسي بالإكراه.

ثالثاً: لاشك هناك نقائص وعيوب واختلافات كبيرة في الوعي الجمعي للكرد الذي يعاني بدوره من خلل كبير،كما أن الطرائق المختلفة  والمتباينة لتشكيل هذا الوعي لعب دوراً سلبياً في ذلك. وهذا يفضي بطبيعة الحال إلى نشوء اختلافات وإشكالات في الرؤى والمواقف عموماً. ولحل هذه الاستعصاءات المستحكمة في الوعي العام للكرد، لابد من بذل الجهد في عمليات التبصير والتنوير والقيام بدراسات شاملة للظواهر السلبية للمجتمعات الكردية وللشخصية الكردية المثيرة للجدل لتنوعها واختلافها نتيجة إختلاف اللهجات والمذاهب الدينية والبيئات ومصادر التعليم والثقافة وغير ذلك، والتعمق في أغوارها، للوصول إلى تشخيص سليم لنقائص وعيوب ومشاكل هذه الشخصية، ثم محاولة العمل على إيجاد طرق وأدوات للتخلص ومعالجة هذه المشاكل، ولحين إجراء التشخيص وإيجاد العلاج المناسب، يجب التعامل مع هذه الشخصية الإشكالية مرحلياً بطريقة سليمة وهادئة تشتغل وتركز على التقريب والتواصل المستمر مع هذه الشخصية من أجل تآلفها، وتستبعد أسلوب أو طريقة تسبب نشوء قطيعة نهائية مع هذه الشخصية وتؤدي إلى زيادة تشتتها وتشرذمها، كي لا تتحول هذه القطيعة لاحقاً إلى عداوة مستحكمة.  
ثم هناك ما هو أهم في هذا الموضوع، ألا وهو مسألة:
كيف نعرف أننا على حق في أفكارنا وآرائنا والآخرين على باطل؟ ألا يمكن أن يكون العكس؟ ما الشيء الذي يعطيك الحق في تخوين وتجحيش الآخر؟ 
كيف يمكن لطرف ما الوثوق بصحة إجراءاته أو الوصول إلى معرفة يقينية  بأن وعيه السياسي هو الأعلى درجةً أو هو المتفوق على الوعي الآخر المختلف؟ كيف يمكن أن يتأكد طرف ما بصحة موقفه حتى يخون الآخر؟ أليس احتمال الخطأ وارد هنا؟
على سبيل المثال أطلق المرحوم مصطفى البرزاني صفة الجحوش على الكرد الذين تعاونوا مع النظام العراقي بما في ذلك عدد كبير من عشيرته، لكن النتائج على أرض الواقع في النهاية أظهرت فشله. ألا يمكن أن من سماهم جحوش كانت رؤيتهم للواقع السياسي أبعد من رؤيته؟ 
عبدالله أوج آلان ورفاقه من حزب العمال الكردستاني أطلقوا تهم الخيانة والعمالة على ملايين الكرد، بسبب الخضوع إلى الدولة التركية المستعمرة، أو بالأحرى على كل من لم يسير خلفهم ويسمع كلامهم ويخضع لأوامرهم، وكل من لا يناضل من أجل كردستان حرة مستقلة. ماذا كانت النتيجة؟
أنهم تخلوا عن كردستان حرة مستقلة، واستبدلوا انتماءهم للأمة الكردية بالأمة الديمقراطية،حتى ذهب أوج آلان إلى حد أنه طعن بشرعية نضاله ونضال رفاقه حين أعتذر لأمهات الجنود الأتراك القتلى، وأعلن أنه سيكون سعيدا في خدمة الجمهورية التركية. أي أنه فاق في العمالة والخيانة حسب مقياسه السابق على من كان يخوِّنهم ويوبخهم ويتهمهم بالتخاذل والخضوع للجمهورية التركية.
هناك أكثر من ثمانين برلماني كردي في حزب أردوغان ومن خلفهم الملايين من الكرد الذين انتخبوهم، هل من المعقول أن يُتهموا بالخيانة والعمالة؟ ألا يمكن أن تكون رؤيتهم الواقعية للحياة السياسية وللقضية الكردية في تركيا أكثر حكمة وذكاء وواقعية، ويكفيهم فخرا أنهم لا يقبلون بتغيير انتمائهم القومي ومعتزين به، وأنهم لا يقتدون بالتائهين في متاهات جبال قنديل والمولعين بخرافات الأمة الديمقراطية والمعزولين عن العالم ويسببون لشعبهم التدمير والتشريد ويسخرون الدم الكردي من أجل أمة ديمقراطية شرق أوسطية ليس لها لا أساس ولا معنى؟

لماذا لا يضع السياسي الكردي في حسبانه إحتمال خطأ رؤيته وموقفه السياسي ولو واحد بالمائة؟ لماذا يصر على أنه مصدر الحقيقة المطلقة والآخرون مجرد خونة؟ أليس هذا التصرف بحد ذاته له دلالات تنم عن الجهل والخبل والغباء؟
من أينَ لأيٍ منا أن يعرف أنه على صح والآخر على خطأ؟ 
نعم هناك بعض المؤشرات توحي لنا أننا على حق، لكن من الحمق أن نتجاهل أن للآخر المختلف أيضا مؤشراته التي توحي له بأنه على حق. فهل من الحكمة والذكاء أن نغرق حتى آذاننا في وحل سخافة التخوين والتجحيش والعمالة؟

هناك من أحبَّ لينين وستالين لحد الجنون، بينما أبناؤه وأحفاده حطموا تماثيلهما في الميادين العامة وأوسعوا ضرب رؤوسهما بأحذيتهم المتّسخة.
عندما توفي جمال عبد الناصر ذرف الملايين من العرب الدموع على رحيله، ومن بينهم بعض الكرد أيضا. لكن فيما بعد تبين للكثيرين أنهم كانوا مخدوعين به.
أدولف هتلر هذا الدكتاتور الذي عشقه الشعب الألماني في يوم ما لدرجة الوله ومنحوه الولاء المطلق، لكن معظمهم اليوم  يحتقرونه ويستهزؤون به في أفلام ومسرحيات هزلية عنه، ويعتبرونه أنه كان مخبولا أو مجنونا متهورا لا أكثر.
بشار الأسد هذا العربيد الذي قتل من شعبه مئات الآلاف وما زال، كان الكثير من ضحاياه يصفقون له بالأمس بمنتهى الحرارة والشدة.
إنه ضرب من الخبل أن نحتكر الحقيقة لوحدنا، لأنه لو أخذ كل طرف أو كل جماعة هذا الموقف، لتعطلت مسيرة الحياة، ولانشغلوا فقط في الصراع فيما بينهم.
إن التعصب والإنبهار يعمي العقول ويعطل ملكة الفهم عند الإنسان، وكل الذين يخونون الآخر ويجحشونه، هناك أيضا بالمقابل من يخونونهم ويجحشونهم.

هل هناك معايير تحدد صحة الآراء والمواقف والأفكار؟
أو بالأحرى هل هناك معيار للحقيقة؟
يورد أحد الفلاسفة بشكل ظريف رأيه في هذه المعضلة العويصة فيقول لو أتينا بحمار أو جحش، ووضعنا أمامه سطل من الماء وكمية من الأعشاب، وطرحنا السؤال التالي على جمهرة الناس: 
ماذا سيفعل الحمار أولاً؟ هل سيشرب أولاً الماء  أم سيأكل العشب أولاً؟
بعضهم سيجيب بأن الحمار سيشرب الماء أولاً، والبعض الآخر سيقول أن الحمار سيأكل العشب أولاً.
إذن أين هي الحقيقة هنا؟ أننا لا يمكن أن نعرف الحقيقة إلا بعد أن يبادر الحمار إلى فعل الشرب أو فعل الأكل، إذاً لننتظر ماذا سيفعل الحمار حتى نعرف الحقيقة، لأن الحقيقة لحد هذه اللحظة مجهولة من قبلنا، وهي في رأس الحمار وحده وهي غائبة عنا. فإذا بادر الحمار إلى شرب الماء أولا مثلاً، عندها نكون قد عرفنا الحقيقة، أما ما نقوله قبل ذلك فهو مجرد تخمين وليست الحقيقة.
إذن العبرة هنا أن الحقيقة غائبة عنا، فلاهي مع من يخون ويجحش الآخر ولا هي مع الآخر المخوَّن والمجحش، الحقيقة ما يحدث في النهاية على أرض الواقع. أي أن النتائج هي التي تحدد صحة أعمالنا وتفكيرنا أو خطأها.
ويمكننا الإستفادة أكثر من حكاية الحمار هذه، حين نعلم أن من كان يقول بأن الحمار سيشرب أولاً فقد أصدر حكمه هذا بناءً على إشارة من داخله أشعرته بالعطش ربما أو بالحاجة إلى شرب الماء، بينما الآخر جاءته إشارة داخلية أشعرته بالجوع ربما فقرر بأن الحمار سيأكل أولاً.
كذلك هي أحكامنا، إننا لا نعرف دائما بأن ما نطلق من أحكام بحقنا أو بحق الآخرين أحكام صائبة أم خاطئة، لأن الإنسان عندما يصدر حكما أو قرارا يعتمد في ذلك على ما تحتويه ذاكرته ووعيه.
فإذا سألنا مسلما أيُّ اللحم أطيب؟ لحم البقرة أم لحم الخنزير؟
سيغضب هذا المسلم ثم يستغفر ربه ويقول بأن لحم البقرة طبعاً أطيب، مع أنه لم يذق أبدا طعم لحم الخنزير. وإذا سألنا هندوسياً سيغضب أيضا مثل المسلم ويستغفر ربه، لكنه سيقول لحم الخنزير أطيب طبعا مع أنه لم يذق طعم لحم البقر في حياته.  

إذ إنّ عملية استبعاد كلي لإمكانية أن يكون العكس هو الصح هي بحد ذاتها عملية ظالمة وخاطئة.
ثم إنه من منتهى الحماقة أن تقوم بإجراء يتعلق بشعب، أن تقوم بثورة مثلاً، أو بتأسيس حزب ما، وعندما لا يتجاوب معك شعبك أن تصفه بالخيانة والعمالة، لأنه من الممكن أن نعتقد أحياناً بشيء أنه من البديهيات، فيظهر لنا بعد حين خطأ اعتقادنا وتصورنا. 
وحتى إذا كانت الفكرة التي تطرحها صحيحة مائة بالمائة، ولم يلتفت إليها أو لم يتجاوب معها الآخرون، فلا يمكن وصف الآخرين بالغباء أو بالخبل،  لأن العيب أو النقص ليس فيهم وليس في الفكرة ذاتها بطبيعة الحال، وإنما في صاحب الفكرة ذاته، كونه أنه لم يستطع إيصالها للآخرين بشكل صحيح. 
إن ما عاشته الحركات التحررية الكردية المسلحة يثبت خطأ رؤيتهم وتقييمهم للأمور، وذلك من خلال النتائج السلبية والكارثية التي تسببوا بها لشعوبهم. 
إن مجرد استعداد حزب أو شخص للقتال في سبيل وطن أو قضية ما، بأن يحمل بندقية على كتفه وأن يحمل روحه على كفه، لا يعطيه الحق في اتهام الآخر بالخيانة وبعدم القيام بالواجب الوطني؟
إن من يفكر على هذا النحو يتسم عادة بالتعصب وضيق الأفق وبالغرور، ويعتقد بأن الجميع يجب أن يفكروا مثله ويتصرفوا كما يتصرف هو، فيقع في مطبات وأخطاء كثيرة ولا يحقق في النهاية أية مكاسب، بل ربما يسبب نتيجة لتهوره وقصوره وأنانيته، هو بالذات ما هو سلبي ومضر بالآخرين.
 
إن المتخيلات الثورية العقائدية وغير العقائدية يمكنها أن تشوه الإدراك السليم وتحد كثيراً من قدرة العقل على التفكير السَّوي بفعل التكرار المستمر والإكتفاء بتصورات وآراء معينة والتمسك بها لدرجة التعصب ، وهذا ما يؤدي بأصحاب هذه المتخيلات إلى إلقاء الذنب ومسؤولية فشلهم دائما على الغير، كونهم معصمون من الخطأ حسب زعمهم،مما يدفعهم ذلك إلى إقصاء الآخرين الذين يرفضون الإرتماء في خيمتهم والخضوع لهم، وإعتبارهم خونة وعملاء، لأنهم يعتقدون أنه بإمكانهم وحدهم وبطريقتهم فقط تحقيق الخير الأسمى للإنسان.
ثمة ظاهرة تاريخية تتعلق بهذا الموضوع وهي ظاهرة تلازم العنف بالحقيقة. والأصح أن نسميها متلازمة العنف والحقيقة. وتعني أنّ من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة الكاملة هو بالضرورة على استعداد تام للقتال من أجلها. وفي هذا الصدد يقول إريك فايل وهو فيلسوف ألماني عاش ودرس في فرنسا بإن هناك صنوفاً من العنف بقدر ما هناك من مقدسات. في أحداث التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة بخصوص هذه المتلازمة. منذ عهد الملوك السومريين مرورا بعصر الفراعنة وليس إنتهاءً بالغزو العربي الإسلامي. لكني سأقتصر هنا في الحديث عن هذه المتلازمة في عهد ليس ببعيد عنا كثيرا. فكارل ماركس وزميله فريدريك انجلز عندما اعتقدا بقوة أو بصورة يقينية، بأن أفكارهما أو بالأحرى أفكار ماركس هي الحقيقة المطلقة، كان لابد وأن يلجآ إلى العنف بالضرورة، ولذلك عملوا على إيجاد فكرة "العنف الثوري"،في كتابهما المشترك عن الأيديولوجية الألمانية، وأن العنف هو محرك التاريخ، أي أن العنف هو ضرورة تاريخية حتمية للتغيير. ونتيجة لهذا الفكر المتطرف قُتل أكثر من مائة مليون إنسان في البلاد التي طبقت فيها الماركسية ولا سيما في روسيا والصين.
ونجد في الأديان أيضا نفس هذه المتلازمة تحت مسمى الجهاد المقدس في سبيل الله (الحقيقة المطلقة)، لأن الأديان أيضا ترى أنها صاحبة الحقيقة المطلقة، ففي الإسلام على سبيل المثال يوجد الجهاد المقدس مقابل العنف والله مقابل الحقيقة.
كما أن هذه المتلازمة منتشرة بين الناس العاديين أيضاً، فكم من أبٍ مثلاً يضرب ابنه لمجرد اعتقاده بأنه على حق، وكم من زوج يضرب زوجته لنفس السبب، واخ كبير يصفع أخاه الأصغر لنفس السبب. وكم من معلم يضرب تلميذه لنفس السبب أيضا.
لذلك علينا - إذا أردنا تجنب شر هذه المتلازمة الخطيرة - أن نضع في اعتبارنا دائما احتمالية عدم اليقين في آرائنا وأفكارنا وأحكامنا، وفيما نعتقد عموما. لأنه على ما يبدو أن الطبيعة البشرية عند الإنسان وبفعل غريزتها التسلطية لا تتهاون في مسألة فرض أحكامها واعتقادها على الآخرين،  ولا يمكننا كبح جماح هذه الغريزة التسلطية مطلقاً، بالرغم من أننا نعتقد عكس ذلك حين نفتقد القوة ، لكن بمجرد شعورنا بالقوة وحصولنا على السلطة نصبح أسرى هذه السلطة وبالتالي لابد لنا من الوقوع في شر متلازمة العنف والحقيقة. ولتوضيح هذه الحالة أذكر مثالاً على ذلك يتعلق بالزعيم فيدل كاسترو الدكتاتور المثير للجدل، فحين كان كاسترو يخوض نضاله الوطني ضد حكومة باتيستا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، صرح أكثر من مرة في ردوده على أسئلة الصحافيين أنه لا يقاتل ليصبح رئيسا وإنما ليسقط دكتاتورا، وعندما أسقط الدكتاتور صار هو نفسه دكتاتوراً، وحكم كوبا قرابة ال
خمسين سنة، وحين عجز عن الحكم أورثه لأخيه.
وقد نجح قسم من سكان الأرض - القسم الغربي منه خاصة - في التخلص أو الحد من نفوذ متلازمة العنف والحقيقة، بالاستنجاد بفكرة اليونانيين القدماء حول الديمقراطية التي تفصل بين السلطات وتحدد مدة الرئيس وتقيد سلطاته.

عندما يحمل الكرديُّ بندقية ويعتصم بالجبل ليحرر وطناً مغتصباً وشعباً مضطهداً، يعتبر نفسه فوق الجميع ويمنحها حق إصدار صكوك الولاء الوطني وأحكام الخيانة والعمالة، إنه يريد أن يفرض على الآخر ما يفكر فيه بتوجيه فوهة البندقية إلى صدره، فإن لم يقتنع فثمنه لا يساوي أكثر من ثمن خردة الرصاصة التي يطلقها بدقة في منتصف جبهته، لأنه لا يريد أن يهدر رصاصة أخرى هكذا هباءً.
أين تعلم هذا الكردي هذا الدرس البليغ في الوطنية والتفاني من أجل شعبه؟ 
ما الذي يدفعه إلى القتال من أجل من شعب يزدريه ويعتبر اكثريته خونة وعملاء وجحوش؟ 
من علَّمه هذا الحرف: أن من لا يفهمك فهو عميل وخائن وابن زانية وجحش ابن حجش؟ 
من أين جاءته هذه الفكرة العصماء أن يلقي بكل الصفات القبيحة والمنفِّرة على من لا يعمل برأيه أو على من يخالفه الرأي؟
من أين إستمد هذا الكرديُّ البطل حامل البندقية شرعيته الوطنية هذه وحقه في إصدار صكوك الولاء والبراء؟ 
هل من قوانين الفيزياء والهندسة والرياضيات؟ 
بالطبع لا، لقد حمل هذه الأفكار بوعي ناقص أو وعي مبتور، لذلك تعتبر مسألة اكتساب الوعي من أهم المسائل التي تخص وجود الإنسان. ولذلك ركز معظم الفلاسفة على مسألة تشكيل الوعي الذاتي.
إن أخطر وأكثر ما يهدد وجود أمة هو الجهل والتبعية بكل أشكالها وإهمال مسألة الوعي، وتجلى مضاعفات ذلك في اندفاع الأحزاب الكردية وتسابقها على تبني أفكار كارل ماركس، وردد قادتها شعارات وعبارات جوفاء، تافهة وسخيفة، خدعوا بها أنفسهم وشعبهم، وأصرّ كثيرون منهم بأن الطبيعة ستغير قوانينها لتماهي وتماثل قوانين ماركس، واعتقدوا بأن الشمس ستشرق من الشمال ومن موسكو تحديدا، في الوقت الذي كان فيه الرفيقان المولهان بماركس، ستالين وماو يرتكبان بحق شعبيهما أفظع الجرائم الإنسانية بسبب هذه الأفكار الماركسية التي استحوذت على الحقيقة المطلقة باعتقادهم.

إن ضعف الذهنية الحزبية الكردية الناتج عن الفقر الثقافي وأحادية اتجاهه الذي يعاني منه الكرد عموما، هي التي جعلت معظم الأحزاب والمثقفين الكرد يتهافتون على أفكار عبثية متخيلة عن الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية واسقاطها على الواقع السياسي الكردي، بحيث لم يبق حزب كردي إلا وتزيّن بشعارات ومبادئ هذه الأفكار التي انتشرت في المنطقة بعد نجاح الثورة البلشفية الروسية، والتى رفعت شعارات مهمة ومغرية كحق تقرير المصير للشعوب، كانت كافية أن تخدع الذهنية الكردية الخاوية،التي تشبه الوعاء الفارغ الذي لا يسأل بماذا يُملأ، وكان من الطبيعي أن تظهر بينهم ثنائية غريبة من نوع جديد يمكننا تسميتها بثنائية المناضل والخانع، أو المخلص والخائن، أو الوطني والعميل. مما أدى بالتالي إلى ظهور ثقافة التخوين والتجحيش بشكل غير عادي بين الكرد. 
إن انتشار هذه الطريقة في التفكير أزَّمت الأوضاع أكثر وتسببت في مآسي وخسائر في المادة والروح من الجهتين، كان الكرد بغنى عنها، فقط لو أن هذا الكردي الذي أطلق هذه البذاءات على الكردي الآخر أمهل نفسه قليلاً، وكلف خاطره أن يسأل نفسه، ما الذي يدفع هؤلاء الكرد وبإعداد مهولة إلى اللامبالاة من النضال المسلح وحتى الإصطفاف في خندق الأعداء؟ لماذا يحدث هذا؟
فمن يدري، ألا يمكن أن يكون هؤلاء الجحوش والخونة أكثر عقلانية حين ارتأوا أن قرار هذه الحركات التحررية غلب عليها التهور والتسرع وسوف تكون ارتداداتها وبالاً وسقماً عليهم، فنأوا بأنفسهم عنها، وعندما وجدوا أن مصالحهم مهددة بسبب هذه الحركات لم يتردد الكثير منهم في مؤازرة الدولة المستعمرة ضد هذه الحركات.
للأسف إن غياب المفردات المحركة للذهن عن العقلية الكردية، مثل لماذا وكيف وهل وأين ومتى… أقصت الذهنية الكردية عن الواقع وعن التفكير المنطقي، لذلك أصبحوا مثل الجمهور الذي اتخذ قراره حسب الإشارات الداخلية التي جاءته فيما سيفعل الحمار؟ هل سيشرب أولا أم سيأكل أولا؟ وانقسموا فيما بينهم على هذا الأساس، ومازال هذا الإنقسام في انتشار إلى أن يبادر الحمار إلى فعله.
[1]  قد يلتبس على البعض مسالة تشوه الإدراك عند الشخص المتعصب لدوغمائية ما كالمؤدلج والمتدين، ولإزالة هذا الإلتباس يمكن ذكر أمثلة كثيرة من حياتنا الواقعية، إلا أن أكثرها بيانا وتوضيحا لمسالة تشوه الإدراك هنا، هو أن ينتحر أحدهم أو تحرق إحداهن نفسها بالنار أو ترمي بنفسها في بئر، لأنه أو لآنها مُنعت من الزواج من حبيب قلبها. ما يدفع إلى الإنتحار هنا، هو عدم قدرة هذا الشخص من التحرر من سطوة الحب أو العشق نتيجة الخضوع الكامل له. هذا الخضوع الكامل يحد من قدرة العقل على التفكير الصحيح ويجعله ينظر إلى الحياة بزاوية حادة وهو ما اسميته: التشوه في الإدراك.  فالعاشق المنتحر هنا يحصل عنده إعتقاد كامل (نتيجة لتشوه إدراكه)  بأن الحياة لا يمكن أن تستمر بدون هذا الحبيب بالذات، وبالتالي يدفعه هذا الى الإنتحار.  فالمتدين المتشدد لديه إعتقاد كامل بأن دينه هو دين الحق، لذلك فهو مستعد أن يفعل أي شيء في سبيل هذا الدين. وهذا يسري على المؤدلج المتشدد بنفس النسبة ولنفس الأسباب.
[2]  يعبر احد الفلاسفة (واظنه افلاطون) عن هذه الحقيقة بمثال جيجيس (GIGES) راعي الملك حين  عثر على خاتم، فقام بفركه لإزالة الغبره عنه فاختفى، قام بفركه مرة اخرى فظهر، أول ما فعله هذا الراعي أن قتل الملك ونصب نفسه ملكا وتزوج إمرأة الملك.  يقول فيلسوف القوة نيتشه الالماني في هذه الموضوع ان الضعفاء لطيفون جدا لآنه لا مخالب لهم. ولكن حين تظهر لهم مخالب ينهشون بها بصورة وحشية. ويتجلى ذلك حاليا في أكثر من مطرح في واقعنا البائس.  وأكثر الحيوانات الشرسة شبها بالحيوان الأخير هو الذئب، لذلك قالوا: "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"..
 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات